تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 307 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 307

307 : تفسير الصفحة رقم 307 من القرآن الكريم

** فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً * وَالسّلاَمُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدْتّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحداً من البشر, فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها, فسلمت لأمر الله عز وجل واستسلمت لقضائه, فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله, فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً, و{قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فري}, أي أمراً عظيماً, قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا سيّار, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها, قال: وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئاً, فلقوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها ؟ قال: لا ولكني رأيت الليلة من بقري مالم أره منها قط, قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن زياد: وأحفظ عن سيّار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً فتوجهوا حيث قال لهم, فاستقبلتهم مريم, فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاؤوا حتى قاموا عليها {وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فري} أمراً عظيماً {يا أخت هارون} أي يا شبيهة هارون في العبادة {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغي} أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة, فكيف صدر هذا منك ؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي: قيل لها: {يا أخت هارون} أي أخي موسى, وكانت من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم, وللمضري يا أخا مضر, وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون, فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة, وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون.
ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير, وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهجستاني, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا المفضل بن فضالة, حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز وجل: {يا أخت هارون} قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه, وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى {فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون} وهذا القول خطأ محض, فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل, فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً, وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما, ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم إلا أنه ليس بيني وبينه نبي» ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي, لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد, ولكان قبل سليمان وداود, فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى: {ألم تر إلى الملإِ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} وذكر القصة إلى أن قال: {وقتل داود جالوت} الاَية, والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه, قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل, فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة, بل هي باسم هذه, وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس, سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون {يا أخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به, وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن كعباً قال إن قوله: {يا أخت هارون} ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {يا أخت هارون} الاَية, قال: كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد, ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به, وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به, وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر, قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل. وقوله: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبي} أي إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية, وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة, فأحالت الكلام عليه, وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه, فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم {كيف نكلم من كان في المهد صبي} قال ميمون بن مهران: {فأشارت إليه} قالت كلموه, فقالوا: على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبياً, وقال السدي لما «أشارت إليه» غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبي} أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره, كيف يتكلم ؟ قال: {إني عبد الله}, أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد, وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله: {آتاني الكتاب وجعلني نبي} تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة, قال نوف البكالي: لما قالو لأمه ما قالوا, كان يرتضع ثديه, فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ـ إلى قوله ـ ما دمت حي} وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني: رفع أصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبي} الاَية, وقال عكرمة: {آتاني الكتاب} أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار عن عبد العزيز بن زياد, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عيسى بن مريم قد درس التوارة وأحكمها وهو في بطن أمه, فذلك قوله: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبي} يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.
وقوله: {وجعلني مباركاً أينما كنت} قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري: وجعلني معلماً للخير. وفي رواية عن مجاهد: نفاعاً. وقال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار, حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي, سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالماً هو فوقه في العلم, فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي ؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده, وقد أجمع الفقهاء على قول الله: {وجعلني مباركاً أينما كنت} وقيل: ما بركته ؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. وقوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حي} كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حي} قال: أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت, ماأبينها لأهل القدر.
وقوله: {وبراً بوالدتي} أي وأمرني ببر والدتي, ذكره بعد طاعة الله ربه, لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين, كما قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسان} وقال {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}. وقوله: {ولم يجعلني جباراً شقي} أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي, فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب. وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً, ثم قرأ: {وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقي} قال: ولا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً, ثم قرأ: {وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخور}.
قال قتادة: ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن, فقالت: طوبى للبطن الذي حملك, وطوبى للثدي الذي أرضعت به, فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه, ولم يكن جباراً شقياً. وقوله: {والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حي} إثبات منه لعبوديته لله عز وجل, وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق, ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد, صلوات الله وسلامه عليه.

** ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قول الحق الذي فيه يمترون} أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به, ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول, وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق, وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى بن مريم, قال: الحق, والرفع أظهر إعراباً, ويشهد له قوله تعالى: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة فقال: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} أي إذا أراد شيئاً, فإنما يأمر به فيصير كما يشاء, كما قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين}.
وقوله: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته, فقال: {فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم, أي قويم من اتبعه رشد وهدي, ومن خالفه ضل وغوى. وقوله: {فاختلف الأحزاب من بينهم} أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله, وأنه عبده ورسوله, وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, فصممت طائفة منهم, وهم جمهور اليهود. ـ عليهم لعائن الله ـ على أنه ولد زنية, وقالوا: كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله. وقال آخرون: بل هو ابن الله. وقال آخرون: ثالث ثلاثة. وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله, وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين, وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} قال: اجتمع بنو إسرائيل, فأخرجوا منهم أربعة نفر, أخرج كل قوم عالمهم, فامتروا في عيسى حين رفع, فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات, ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية, فقال الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه قال: هو ابن الله وهم النسطورية, فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للاَخر: قل فيه, فقال: هو ثالث ثلاثة: الله إله, وهو إله, وأمه إله, وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا, فاقتتلوا وظهروا على المسلمين, وذلك قول الله تعالى: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} قال قتادة: وهم الذين قال الله: {فاختلف الأحزاب من بينهم} قال اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير وعن بعض أهل العلم قريباً من ذلك, وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم, فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفاً, فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً, فقالت كل شرذمة فيه قولاً, فمائة تقول فيه شيئاً, وسبعون تقول فيه قولاً آخر, وخمسون تقول شيئاً آخر ومائة وستون تقول شيئاً, ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة, وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه, فمال إليهم الملك وكان فيلسوفاً فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم, فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة, ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء, وابتدعوا بدعاً كثيرة, وحرفوا دين المسيح وغيروه, فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها, بلاد الشام والجزيرة والروم, فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة, وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود والنصارى أنه المسيح, وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء.
وقوله {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولداً, ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة, وأجلهم حلماً وثقة بقدرته عليهم, فإنه الذي لا يعجل على من عصاه, كما جاء في الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}. وفي الصحيحين أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وقد قال الله تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير} وقال تعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص في الأبصار} ولهذا قال ههنا: {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} أي يوم القيامة. وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, وأن الجنة حق والنار حق, أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

** أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـَكِنِ الظّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة: إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره, كما قال تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعن} الاَية, أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئاً, ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعاً لهم ومنقذاً من عذاب الله, ولهذا قال: {أسمع بهم وأبصر} أي ما أسمعهم وأبصرهم {يوم يأتونن} يعني يوم القيامة {لكن الظالمون اليوم} أي في الدنيا {في ضلال مبين} أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون, فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك, ثم قال تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة} أي أنذر الخلائق يوم الحسرة {إذ قضي الأمر} أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه, {وهم} أي اليوم {في غفلة} عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة {وهم لا يؤمنون} أي لا يصدقون به.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار, فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا, قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت ـ قال ـ فيقال: ياأهل النار هل تعرفون هذا ؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت ـ قال ـ فيؤمر به فيذبح, قال: ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت, ويا أهل النار خلود ولا موت» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وأشار بيده ثم قال «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» هكذا رواه الإمام أحمد, وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به, ولفظهما قريب من ذلك. وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة: حدثني أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله, وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه, وهو في الصحيحين عن ابن عمر.
رواه ابن جريج قال: قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه, ورواه أيضاً عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه: يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون, وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل: حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله هو ابن مسعود في قصة ذكرها, قال: فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة, فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة, ويقال لهم لو عملتم, فتأخذهم الحسرة, قال: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار, فيقال لهم لولا أن الله من عليكم. وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار, ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا, فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه, ثم ينادي مناد: يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا, فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه, ثم يذبح بين الجنة والنار, ثم ينادى: يا أهل الجنة هو الخلود أبد الاَبدين, ويا أهل النار هو الخلود أبد الاَبدين, فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرح ماتوا, ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا, فذلك قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} يقول إذا ذبح الموت, رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة} من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة} قال: يوم القيامة, وقرأ {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله}. وقوله: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف, وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس, ولا أحد يدعي ملكاً ولا تصرفاً, بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم, فلا تظلم نفس شيئاً ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة. قال ابن أبي حاتم: ذكر هدبة بن خالد القيسي, حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة: أما بعد, فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت, فجعل مصيرهم إليه, وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي خلقه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه: إنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.